قال لي صاحبي يوماً..
________________________________________
قال لي صاحبي يوماً : كيف أكون سعيداً ومحبوباً ؟! فقلت له : دع عنك الورع ، وأرفع النقاب عن وجه مقصدك ؟! فقال لي : قصدي – قصدك الله بفضله - ؛ كيف أكون محبوباً ، ويهتم الناس بي وفي نفس الوقت أكون ناجحاً وسعيداً؟!
فقلتُ له بعد أن اكتحلت عيناه بابتسامة مني : إنّ النفس – يا صاحبي - قد جُبلت على حب الأنا ؛ فالنفس تتنفس من خلال الحظوة التي تنالها ممن حولها ، فالكل مقل من ذاك ومستكثر ، وكل (أحد) مهما بلغ في العلم مبلغاً ؛سيتأثر بحفاوة الناس أو جفوتهم ، على تفاوت – بالطبع – بينهم ، والسعي لكسب ثناء الناس من أعظم محفزات السلوك البشري ؛ لذا وُسم الرياء بالشرك الخفي ؛ والاهتمام بذلك ليس عيباً في حد ذاته ؛ ولكن العيب – كل العيب – أن يكون ذلك هو الغاية والمطلب والمقصد ، وصدقني حينما تكون تلك هي غايتك ؛ فإنك ستَتعب وتُتعب ؛ ولن تبلغ الغاية !
والناس - يا صاحبي - متفاوتون ؛ فيهم العالم والجاهل ، والذكي والغبي ، والحليم والغضوب ، والرحيم والقاسي ، واللطيف والشديد ، والضعيف والقوي ، فإن أنت طلبت الحظوة عند هؤلاء جميعاً ؛ فإني أنصحك بأن تكبر على عقلك أربعاً فإنه لا عقل لك !!
محبة الناس – يا صاحبي – تُنال بفضل الله أولاً وبفضل الله أخيراً ؛ ولا شك أنّ بينهما أسباباً تُبذل ، وطرائق تُسلك ، فخذ مني ما أظنه في طريقك إلى غايتك دليلاً ، وما أخاله في تحقيقك لهدفك معيناً ؛ فبعد قيامك بحق الله عليك ؛ فتش في نفسك ؛ من أي الناس أنت ؟! ، إذا أننا كثيراً ما نبدأ في البحث (بعيداً) عن الأشياء التي نريد ، وهي في الحقيقة (قريبة) منا جداً ، وتذكر جيداً : أن تعزيز نقطة قوة واحدة فيك ؛ هو خير بكثير – وكثير جدا – من السعي خلف تحصيل نقاط عدة ليست لديك !
واعلم – وفقك الله لغايتك – أنه ما من أحد في تاريخ البشرية جمعاء ؛ استطاع أن يصنع مجده بدون معونة ، فكن متعاوناً – مع الجميع – قدر المستطاع ؛ فهناك الكثير من اللحظات – وصدقني حين أقول الكثير – ستمر بك محتاجاً فيها إلى الآخرين ؛ ولكن إياك أن تُسر الآخرين ؛ بما تضر به نفسك ، مما لم تفرضه عليك شريعة ، أو فضيلة !
وتعلم - يا صاحبي - أن تكون شاكراً لمن أفادك ، وممتناً لمن شكرك ، ومجيباً لمن سألك ، وأعيذك بالله ثلاثاً ثم أعيذك بالله ستاً بعد أن أعيذك تسعاً : أن تكون متجاهلاً لمن أتاك قاصداً ، وغير مكترث بمن خصك سائلاً ، فتلك – والله - صفة يأنفُ منها الفضلاء ، وفعلة يستنكفُ عنها العقلاء ، وهي – والله - صفة قبيحة ، وخلة شنيعة ، تشوه جمال كل فاضل وعاقل وكامل من أبناء آدم !
واسعَ - يا صاحبي - إلى إدخال السرور على قلب كل من تيسرت لك أسباب إدخال السرور على قلبه ، وتذكر دائماً : أنه إذا لم تتيسر لك أسباب السعادة ؛ فلا أقل من أن تكون سبباً في سعادة غيرك ؛ فلذلك والله لذة تقارع لذة الكأس والخمرة ، ورؤية ما على خدود الغانيات من حمرة !
واهتم – يا صاحبي – بمظهرك فهو الرسالة الأولى التي ترسلها للآخرين عنك ؛ ومعلوم في عُرف العقلاء أنّ المظهر الحسن ليس دليلاً على حسن صاحبه ؛ ولكن صدقني أننا في الغالب لا نقبل المرء - مهما كان رائعاً - بدونه ! .
وتذكر – يا صاحبي – أنه ليس بوسعنا أن نعيش بشراً أسوياء دون أن ننغمس في شيء من الزلات ؛ ولكن من كريم فضل الله علينا أن شرع لنا التوبة ، وهي مياه طاهرة
عذبة نقية مقدسة ، نغمس (أرواحنا) فيها ؛ لتخرج نقية كما كانت في أول يوم لها على هذه البسيطة ! ؛ فإذا كان ذلك كذلك ، فعليك بقبول عذر من جاءك معتذراً ، كما تحب أن يقبل الآخرون عذرك حين تعتذر!
واعلم أن الألم - يا صاحبي – في حياتنا كثير جداً ؛ فوطن نفسك على العيش والتعايش معه ، واعلم أن الفرح في عالمنا قليل جدا ، فعش لحظتك ، واستمتع بها دون وكس أو شطط ، وعايش مع الناس أتراحهم كما تعايش معهم أفراحهم ، واعلم أن الناس تنسى من شاركهم اللذة ؛ ولكنها لا تنس من شاركهم الألم !!
لن أمثل معك دور الواعظ _ فذلك دور شريف لا أتقنه – ولكني لك من الناصحين ، وحديثي إليك حديث الصادقين ، اعلم أن كل مجتمع يا صاحبي – كما قيل - كزوجة أب ؛ يضخم أخطاءك ، ويرى إحسانك من الواجبات! ففيهم الحاسد والحاقد والجاهل والسفيه والساذج فاجعل لنفسك معهم هدفاً ، ولا تجعل (كلك) لهم أذنا ، فما والله أحد منهم سلم ، وفي تاريخ العظماء شواهد تغني عن الكلم !
وقبل الختام أقول : علق على باب (عقلك) لوحة كُتب فيها : كل نجاح يطارده الفشل ، ومهمة الناجح هي الإفلات منه ! ، فزود عقلك بكل جديد في عالم القراءة ، فالقراءة للنجاح ، كالمعادن والفيتامين للجسد ؛ يزداد قوة بها ، وتخر قواه بفقدها ، فاقرأ ثم اقرأ وبعدما تنتهي من القراءة ؛ اقرأ !
ومسك الختام وصية هي دائما من قلبي بمكان : إياك ثم إياك من أن يستولي عليك الحب ؛ ففي الحب ألم ؛ لا نهاية له ، كما أنه فيه سعادة وفرح ولكن صدقني مهما كان حجمه ؛ فقد وضعت النفوس حدا له ، وتذكر دائماً : أن السكين حينما تخرق جسدين ؛ فإن الألم لا يتناصف ، ولكنه يكون ألماً كاملاً وافياً في كلا الجسدين (!!)
عندها قال لي صاحبي : كم هو جميلٌ قولك ؛ وكم هو مطربٌ حرفك !
قلت له : أشكرك يا صاحبي ؛ ولكن ثق أنّ ما تراه أنت جميلاً ؛ فإن غيرك سيراه على الضد من ذلك ، والناس تتفاوت آراؤهم كما تتفاوت أشكالهم ، لذا من العسير أن ترى من هو موافق لك على الدوام ، لأنك إن رأيت فاعلم أنّ أحدكما نسخة زائدة تستحق الإتلاف !
واعلم يا صاحبي – زادك الله علماً ورفعة – أننا كثيراً ما نطلب الحقيقة ، وننشد الصراحة فقط حين يغلب على ظننا أنها ستكون في صالحنا وموافقة لهوانا ، والشأن جداً مختلف عندما يكون الأمر عكس ذلك ، والموفق من وفقه الله لقبول الحق من أي إنسان كيفما وأينما كان !
وأوصيك يا صاحبي بالإتقان قدر الإمكان ؛ فالجيد قد يعتبر في عرف العقلاء غير جيد ؛ إن كان تحصيل الأجود منه ممكناً ، فليس في عيوب الناس عيب ، كنقص القادرين على الكمال ؛ واحرص – زادك الله حرصاً على حرصك – أن تكثر من التحصيل وقت شبابك وفراغك وصحتك ، فهذه الأوقات أوقات تحصيل ، ووقت الكهولة الإنشغال والمرض أوقات إنفاق !
وإن أردت يا صاحبي تعلم أي علم ؛ فادخل البيوت من أبوابها ، ودع عنك تسور الحيطان ، أو الدخول من نوافذ الجدران ، فلكل فن باب ، ولكل مجال مدخل ، فابحث عن المداخل تفتح لك الأبواب ، ومن فتحت له الأبواب ، كان كرب البيت ، وليس من الدخلاء عليه !
وأذكرك – ذكرك الله الشهادة قبل موتك – أن تطلب الأشياء من أهلها ؛ لأن فوات الحاجة – والله وبالله وتالله – خيرٌ من طلبها من غير أهلها ؛ واعلم أن الكأس الممتلئ لا يقبل الإضافة ، فلكي تستقبل الصواب في عقلك ، لا بد لك من أن تفرغه مما سواه قبل ذلك ! فالتخلية قبل التحلية ، واعلم – يا صاحبي – أن الكتاب الجيد في عصرنا عزيز ؛ فإذا وجدت كتاباً جيداً ؛ فاشتره ولو كنت تعلم يقيناً أنك لن تقرأه !
اعلم – يا صاحبي – أن في رأسك عينين ، ولكن ليس لك إلا نظر واحد ، فلا تركز نظرك على العقبات بل ركزه على هدفك مباشرة ، وحينها لن ترى العقبات : عقبات ! وصدق من يقول لك : إن السقوط والهزيمة لا تعني النهاية – لا والله – وحده الاستسلام الذي يعنيها ! واعلم – يا صاحبي – أن الأمل رحمة من رحمات ربنا ؛ فامنح نفسك الكثير منه، فالنفوس الأبية تتعطر منه ، وتقوم بنشر ما تبقى من عبقه على من حولها ؛ وتذكر – يا صاحبي – أنه ليس بإمكانك أن تكون على حق دائماً ؛ فلا بد للسلوك من هفوة ، ولا بد لخيل العقل من كبوة !
وأعيذك – يا صاحبي – من الغرور والتكبر ؛ فهي والله مهلكة كل ناجح ، وسبب ضياع كل فالح ، فما اغتر أحد إلا بسبب مهانة وجدها في قلبه ، وفي سيد المتكبرين خير شاهد ! فتواضع ! وبعد أن تتواضع ؛ تواضع ! ثم إذا استويت متواضعاً ؛ فتواضع ! فإنك والله لن تكون شيئا ذا بال بدونه ، فلا تأنف من التعلم من أي شخص كان ، ولا تحقر أحداً مهما كان ، وإن رأيت من كان أهلاً لذلك ، فارحمه وتذكر نعمة الله عليك ، وتذكر ثم تذكر ما قد قيل : لا أحد يستطيع أن يركب ظهرك إلا إذا كنت راكعاً ، وأن التكبر على المتكبر - أحياناً - قد يكون تواضعاً !
اعلم – يا صاحبي – أن عظمة الأشخاص مصدرها الألم ، واختر ما شئت من العظماء عبر التاريخ لتجد في سيرته خير برهان ، فالنجاح – يا صاحبي – سلعة والله معروضة ، ولكنها تبحث عمن يكون أهلاً للثمن ، أما الفشل فهو الشيء الذي يستطيعه كل أحد ، فإن أردت أن تكون فاشلاً فكل ما عليك فعله هو : ألا تفعل شيئاً !!
واعلم – يا صاحبي – أنّ عقلك كذاكرة الحاسوب إن أثقلته بالألعاب والأفلام والصور ؛ ضعف أداؤه وضاقت ذاكرته ، ولم يعد فيه متسع للعظيم من الأمور ، فاختر نوعية التغذية ، فبنوع غذاء عقلك ؛ يكون نتاجك ، واحذر أن تعبث بعقلك ؛ فإنه لم يخلق لهذا ، واعلم أنّ أعظم نعمة بعد نعمة الإسلام : هي نعمة العقل ؛ فاحمد الله على ذلك وسله المزيد من العلم والتوفيق !
فقال لي صاحبي : حسناً ؛ سأحاول أن أتفهم ما قلت ، ولكن هلا أخبرتني كيف أكون حكيماً ؟!
قلت له : زرع الله بذور الحكمة في عقلك ، سأخبرك لاحقاً – إن شاء الله - إن يسر الله لنا ولك في العمر والوقت فسحة !
دخل عليّ صاحبي هذا اليوم ؛ قائلاً بعد أن عطر فمه بابتسامة جميلة : أظنُ – يا صاحبي – أنّ الوقتَ قد حان لتخبرني بما قد وعدتني به في آخر لقاءٍ شرُف بجمعنا !
فقلت له : بعد أنْ صوبتُ سهام بصري نحو عينيه ، وأنا أبادله أريجَ البسماتِ ، نعم أظنه قد آن ، وأرجو أن تكون لهفتك على أمر ذي بال !
سألتني – يا صاحبي – عن كيفية لبس ثياب الحكمة ؛ فأقول لك مستعيناً برب الفلق ، ومستعيذاً به من شر ما خلق : الحكمة – ياصاحبي – بناء ذو أربعة أركان : فالأول منها : خَلقيٌ ، والثاني والثالث : كسبيان ، والرابع : وهبي !
فالأول : أصلُ العقل كما خلقه الله تعالى في رأسك ؛ فإن لم تك بذور العقلِ الوافرِ مزروعة في رأسك يوم أن خلقك الله ؛ فلا أظن أن لك في حلوان الحكمة نصيب !
والثاني : العلم والمعرفة ، فبقدر اطلاعك ومعرفتك ، يكون قربك للحكمة والصواب ، وهذا الركن مبناه على ثلاثة أمور : فالأول : القراءة ، والثاني : القراءة ، والثالث : القراءة !
والثالث : التجربة ؛ وهذه مبناها على أمرين ؛ الأول : تجارب شخصية تزيد مع ازدياد العمر زيادة طردية ، والثاني : تجارب الآخرين ، وهذه تنال من خلال مشافهة أصحاب الخبرة ، أو من خلال قراءة ما كُتب عن تجارب الآخرين !
أما الرابع : فهو التوفيق من رب العالمين ، يهبه من يشاء من عباده المؤمنين ، فبقدر ما تكون علاقتك بالله ؛ يكون لك من نور الحكمة مثل ذلك !
فهذه أركان الحكمة بإيجازٍ – أظنه غير مخل – وإن رغبت بالتفصيل الممل ، فنحن للإملال أهل ، وما عليك إلا أن تلوح بالإشارة ، لنغرقك بالحشو الكثير من العبارة !
واعلم – يا صاحبي – أنّ الحلم بالتحلم ، والعلم بالتعلم ، فكل خُلق كريم ؛ إن كنت راغباً به حقاً – صدقني – سوف يأتيك ، ولكن – صدقني ايضاً – أنك ستتعب قبل أن يزكيك ! وكل ما عليك فعله ؛ هو اجتراع الكثير والكثير من أكسير النجاح : الصبر ! حتى تنال المطلوب ، ولتكون من رواد القلوب !
وتذكر – يا صاحبي – أنه ليس باستطاعتك أن تكون الرجل المثالي ، وليس بمقدورك أيضاً - ولا بمقدور غيرك - جعل من حولك كذلك ، بل كل ما يسعى العاقل إليه ؛ أن يكون إنسانا صالحاً بنفسه ، مصلحاً لغيره ، في حدود علمه وعمله ، وكثيراً ما تكون المبالغة في طلب الكمال ، سبباً في انتكاس الأحوال ، كالمنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضاً قطع !
يا صاحبي : قبل أن تغير نفسك ، أو تسعى في تغيير من حولك ، احرص على فهم الشيء المراد تغييره قبل تغييره ، فإنا كثيراً ما نجتهد في تغيير الأشياء قبل أن نفهمها ، ونحاول تبديل الأشياء قبل أن نعرفها!
واعلم – يا صاحبي – أن بعض الأشياء التي نتأثر بها هي في حقيقتها ليست مؤثرة ، ولكن لأن فيها ما لامس شيئاً خاصاً بنا حصل ذلك التأثير ، فلا تطلب من سواك أن يكون مثلك ، ولا من غيرك أن يكون أنت ! ، فاعرف هذا وافهمه ؛ تفهم الكثير من اختلاف ردات الأفعال !
وقبل أن أختم – يا صاحبي – أحذرك والله من داء التسويف ، ووباء التأجيل ، فما استولى التسويف والتأجيل على أحد إلا هلك وانتهى ، وما جعلهما شخص رفيقا دربه إلا ضاع وانقضى ، فالحذر الحذر ، وابدأ الآن – ولو بالقليل – وتذكر أنّ (مشوار) الألف ميل يبدأ بخطوة !
يا صاحبي الحديث على هذا المنوال متشعب ، ولو أردت أن نصول ونجول وفي كل واد (نهبهب) ، حتى يقول قائل ما هذا التذبذب ، فأنا مستعد لذلك - والله - ولكن في التزام الصمت – العلني - أحياناً حكمة ، فسنتوقف هنا ونستمر هناك!
شكراً لك يا صاحبي على استثارتي ، ولعلنا نعاود الركض يوماً من الأيام ، وشكراً لك جداً على منحي شرف الاهتمام !
فلولاك بعد الله ما كنتُ كتبتُ !
__________________
( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)
- 8 / سورة آل عمران -